أصبح مشروع قانون ” تنظيم دار الإفتاء” قبل أن يتم تأجيله لدور الانعقاد القادم، موضوعًا خصبًا للإعلام القطري والجامعات الأصولية لخلق حروبًا دينية جديدة في قلب الشارع المصري، فلم يكف هؤلاء التجار _تجار الفتن _ عن وصف القانون باعتباره حربًا علي الدين وهدمًا لمؤسسة الأزهر، محاولين بذلك تأليب الشعب المصري وشحنه ضد الدولة المصرية التي تسعي جاهدة لإصلاح ديني حقيقي من شأنه أن يستأصل الأفكار الإرهابية من جذورها التي تضرب بجميع المؤسسات الدينية، وبعد تأجيل القانون وجدنا احتفالات يومية بما يُعتبر انتصارًا للأزهر ضد سيطرة الدولة المصرية.
هل من الطبيعي أن يكون الأزهر مستقلًا عن الدولة!
إن هؤلاء المتهافتين الذين يباركون استقلال الأزهر عن الدولة لا يعرفون ما تعنيه الدولة من الأساس، فالدولة إذا لم يكن لها سلطان علي جميع مؤسساتها فإننا بذلك نخلق كيانات موازية تنافس الدولة في سلطتها، ومثل هذه الاستقلالية غير المحددة بقيود ولا شروط قد تفقد الدولة أهم عناصرها وهي احتكار القوة، والقوة ليست قوة السلاح وفقط، وإنما قوة الكلمة التى تفعل ما لا يقدر عليه السلاح، خاصةً وإن كانت هذه الكلمة ذات طبيعة دينية كالفتوي التي يمكنها أن تحرك شعوبًا بأكملها إلي الأمام أو تدفعهم نحو الهاوية.
وبالتالي فإن انعزال أي مؤسسة عن الدولة يعد بمثابة تقسيم وإهدار لسلطات الدولة، فمن غير المعقول أبدًا أن يكون لشيخ الأزهر سلطةً أبديةً مطلقةً تتخطى بذلك سلطة رئيس الجمهورية الذي يعاد انتخابه حتي يبقي في منصبه، أي منطق يقول بأن يكون لشيخ الأزهر أو غيره ضمانًا مدي الحياة، يمكنه من البقاء في منصبه حتي وإن لم يحقق الغاية من هذا المنصب، الغاية التي تتمثل في تصحيح الأفكار الدينية المغلوطة وتلبية حاجات العصر ومحاربة التشدد والإرهاب الذي يتجذر في جميع الأراضي العربية!
لماذا يحتاج الأزهر إلي الإصلاح؟
إن الأزهر في أشد الحاجة إلي إصلاحات جذرية تمكنه من البقاء قويًا ليؤدي مهامه التي نحن جميعًا في حاجة إليها، فالدولة في حاجة إلي الأزهر ليلعب دورًا داخليًا في توجيه الناس نحو ما ينفعهم وخارجيًا في تولي دور الإصلاح والقيادة نحو دول عربية أقل انقسامًا وأفضل حالًا، إننا جميعًا نريد إصلاح الأزهر ولا نريد زواله، لكن علي المؤسسة أن تعي ذلك وتساعد بقبول هذه الإصلاحات التي من شأنها أن تحافظ علي الأزهر دون أن نضطر مرة أخري لعرض قانون دار الإفتاء، لا نريد أن يكون الحل في إنشاء كيان موازي للأزهر ينافسه في عمله، وإن كان ذلك ليس عيبًا لأننا عندما نتكلم عن دار الإفتاء فنحن نتكلم عن صرح ديني عظيم يمكنه أداء هذه المهمة علي أكمل وجه، لكن علي كل حال فإصلاح الأزهر ووحدته أفضل من وجود كيان موازي له يتقاسم معه إصدار الفتوى.
هل تعد تبعية دار الإفتاء لمجلس الوزراء احتكار سياسي للفتوي أم تحرير لها من سلطة الإجماع واحتكار الأزهر للدين !!
الحقيقة أننا لا زلنا في حاجة للإجابة عن هذا السؤال، إذا ما استمر ذلك الاحتكار الديني وعدم قبول أي رأي من خارج المؤسسة بالإضافة إلى السلطات الأبدية للأزهر وشيخه، فهل يعد استقلال دار الإفتاء عن الأزهر جريمةً في هذه الحالة؟
بدأت الجماعات المتطرفة في إثارة عدة مغالطات أولها أن تبعية دار الإفتاء ل مجلس الوزراء يعد احتكارًا سياسيًا للفتوي، وهي بذلك تتناقض مع أدبياتها أولًا وقبل كل شئ، حيث تسعي الجماعات الإسلامية إلي السيطرة عبر العملية السياسية علي المؤسسات الدينية لتقيم الشريعة علي حد تعبيرها، وهي بذلك تسعي لما تتهم به الدولة المصرية زورًا بأنها تريد تسييس الفتاوي الدينية، فمن حيث المبدأ وقبل توضيح المغالطة، فإن الجماعات الدينية آمنت الآن فقط بفصل السياسة عن الدين وبشكل مؤقت، حتي تتمكن هي من السلطة لتخلط بينهما فيما بعد.
والحقيقة أن هذا القانون لا يعد احتكارًا سياسيًا للفتوي، وإنما تحريرًا لها من سلطة الإجماع، وضمانًا لاستقلالها عن أي ممارسات احتكارية تضع الدين كله في قبضة مؤسسة واحدة، فالدولة لا تريد أن تلعب دور الوحي ولا حتي الشيخ، وإنما تريد رجلَ دينٍ لا يحركه الإجماع بغض النظر عن العقل، إن البرلمان وإن اضطر لذلك القانون فهو لا يريد إلا الإصلاح، أما الحديث عن تسييس الفتوى فهي عبارة تستخدم لتخويف الناس من استخدام عقولهم أو إيهامهم بأن الفقه ثابت لا يمكن أن يتجدد أو يتطور بتقدم الزمان.
إن الفقه يقوم على تلبية احتياجات الناس ومراعاة طبيعة العصر، ولذلك فإن من أهم متطلبات الفقيه أن يمتلك القدرة على الإجتهاد والمراجعة، والاجتهاد في تعريفه هو الإبداع وحرية التفكر، وبالتالي فإن ما يسمى بالإجماع وأقوال السلف التي يتم اعتبارها نصوصًا مطلقةً لا يمكن مراجعتها أو تعديلها، هي أمور تلغي تمامًا أي وجود للإجتهاد.
إن كل الجماعات الدينية تدّعي بأنها تقبل الإجتهاد في أمور الفقه، ثم تجدهم يضعون شروطًا تعجيزية، مثل أن الإجتهاد لا يجب أن يعارض الإجماع، وأن المجتهد لابد أن يكون رجلًا منهم يرضون دينه، وبذلك هم لا يؤمنون حقًا إلا بممارسة الاحتكار وتنصيب أنفسهم قضاة علي الناس باسم الدين.
ومن هنا جاء ذلك الشعور المبالغ فيه بالانتصار، لأنهم يريدون استمرار الوضع كما هو عليه.
إن هؤلاء الرافضون لقانون دار الإفتاء والمحتفلون بتأجيله، إذا لم يكونوا ضمن المطالبين بإصلاح الأزهر، هم في حقيقة الأمر رافضون لكل ما ينزع عنهم هذه الصنمية التي حصلوا عليها طيلة العقود السابقة والامتيازات التي جعلتهم يتحدثون باعتبارهم وكلاء هذا الدين.
