أنتهت قفزة ماو العظيمة إلى الأمام بكارثة دفع الشعب الصيني ثمنها مواجهًا الموت من المجاعة ومن أستطاع منهم النجاة منها عاش حياة الفقر المدقع بلا طعام وبملابس رثه، وأضطر ماو آخر الأمر أن يشتري القمح من الدول الرأسمالية ليطعم شعبه.
لم ينتهي الأمر عند هذا الحد، وبعد أن اضطر ماو للاستقالة محتفظاً بمنصبه كسكرتير عام للحزب، تمت محاكمة العديد من المسؤولين المحليين وإعدامهم أمام العامة، ثم بدأت الصين سلسة من الإصلاحات الاقتصادية، قادتها بعد هذا لتكون واحدة من أقوي الاقتصادات في العالم، حتي أنه أطلق عليها لقب ”مصنع العالم“ فهي المسئولة عن حوالي ٣٠٪ من ناتج التصنيع العالمي. ولكنها بفضل سياسات ”شي“ لم تستطع إنتاج وظائف جديدة.
وسط الأزمة الاقتصادية الطاحنة في الصين والحرب الاقتصادية مع الولايات المتحدة، ما يقرب من ٢٠٪ من الشباب في الصين يعانون من البطالة، وتشير أحدي الدراسات إلى أنه من بين ١١ مليون طالب صيني تخرجوا هذا العام من كلياتهم، فقط ١٥٪ منهم استطاعوا الحصول علي وظائف، ويتقاضوا أجورهم بنسبة ١٢٪ أقل من دفعة العام ٢٠٢١، أي أن الكثير منهم لم يتعدي راتبه راتب سائقي الشاحنات لكنهم محظوظين أنهم عثروا علي وظيفة.
ولكن يبدو أن الرئيس الصيني ”شي جين بينج“ غير مشغول بإصلاح تلك السياسات التي أدت إلى الانهيار المالي لبلاده أو التراجع عنها بقدر انشغاله بتمديد منصبه كسكرتير عام للحزب الشيوعي الصيني في مؤتمر الحزب العشرين القادم والذي يفصلنا عنه أسابيع قليلة.
الصين مثلها مثل دول أخري واجهت خلال عهدها فترات إزدهار وإنهيار في التوظيف، ولكن السياسات المؤقتة مثل إرسال الخريجين للعمل في الريف، لم تستطع أن تحل ازمة التوظيف، بل تعيدنا إلى الوراء إلى ”القفزة العظيمة إلي الأمام“ فقد كان أحد أهداف مبادرة ”ماو“ لحل مشكلة البطالة في المناطق الحضرية هي إعادة توطين عشرات الملايين من الشباب بالقوة من المدن الصينية المزدحمة إلى الريف وأطلق عليها ”التوجه إلى الأسفل“ ليس فقط لأن الوظائف المتاحة في المدن كانت كافية لنصف الشباب الخريجين فقط بل وأيضًا لاعتبارات سياسية لتفريق الجماعات غير المرغوب فيها إيديولوجيا في جميع أنحاء البلاد وفصل الشباب الصينين عن عائلاتهم وربطهم بالحزب، وأنتهت هذه الحملة بسلسلة من الاحتجاجات الشعبية الهائلة التي أدت لإنهائها في العام ١٩٨٠.
لاحقًا في يونيو ١٩٦٢، وصف الحزب الشيوعي سياسات ماو بأنها ”كارثية“ وبالرغم من هذا نجد أن ”شي“ يعيد تلك السياسات مرة أخري في ”قفزة عظيمة” ولكن هذه المرة ”إلى الوراء“ فقد أعلن عن برامج تشجيعية للطلاب الحضريين للسفر إلى الريف، وأصدر الحزب الشيوعي الصيني مرسومًا ينص علي إعانات وقروض مدعومة من الحكومة وحوافز ضريبية لخريجي الجامعات لبدء أعمالهم في الريف، علي الأقل ليست إعادة توطين بالقوة – مثلما فعل ماو – حتي الآن.
الحقيقة وفي صدي آخر لحقبة ماو، كان ”شي“ يأمل في أن سياسات التوسع الحضري، والإنفاق المدعوم بالديون علي مشروعات البنية التحتية، والإصلاحات الهيكلية العملاقة، سوف تؤدي لسد الفجوة في الوظائف التي أنتجتها عشرات السنوات من الإصلاحات في النظام التعليمي استجابة للضرورة السياسية وليس لحاجة ومتطلبات السوق، حيث كانت تلك الاصلاحات تالية لمذبحة تيانانمن“ ١٩٨٩ من خلال الوعد بنظام تعليم جامعي ميسور التكلفة، ثم تقنين برنامج طويل الأجل لتوسيع الالتحاق بالجامعة لتحفيز الاقتصاد الصيني. ولكننا هنا يجب أن نتذكر أن نظام التخطيط المركزي الصيني غير قادر علي خلق أفضل المواهب وتوظيفها والإحتفاظ بها.
إن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الصين هذه الأيام مختلفة عن الأزمة الاقتصادية في العام ٢٠٠٨، فهناك موشرات متزايدة أن سكان الصين وصلوا لنقطة حرجة، ففي يوليو الماضي تم الإبلاغ عن احتجاجات عنيفة خارج عدد من البنوك الصينية بعد تجميد حسابات المواطنين بدون تفسير، وفي ٢٤ مقاطعة من اصل ٣١ مقاطعة صينية توقفت العائلات عن مدفوعات الرهن العقاري بسبب تأخر مواعيد تسلمهم الشقق الجديدة، غير حالات هروب الأثرياء الصينين خارج الاراضي الصينية، كل هذا يوضح حالة ضعف الثقة بين الشعب الصيني والحزب الشيوعي الصيني والتي مازلت مستمرة في التأكل.
في ظل تلك الظروف هل سيُخرج لنا ”شي“ أرنباً من قبعته السياسية في إجتماع الحزب الشيوعي الصيني القادم؟ أم سوف يطيح به الحزب مثلما حدث مع صاحب القفزة الأولي؟!
هل سيستكمل شي ”قفزته العظيمة إلى الوراء“ وينهج نهج ”ماو“ في تعميق تأثير دولة الحزب في الحياة اليومية لمواطني الصين؟ هل سيأمر ”شي“ بحملات توظيف ضخمة ومكلفة وغير منتجة عن طريق الشركات المملوكة للدولة أم سيقوم بتوجيه مئات الآلاف من العمال للمجمع الصناعي العسكري؟ هل سيعمل علي إصلاح العلاقات مع الإتحاد الأوروبي كسبيل للخروج من الأزمة بالرغم من دعم الصين لغزو روسيا لأوكرانيا؟ وأخيراً هل ستعمل سياسات ”القفزة العظيمة الي الوراء“ لتهدئة الشباب الصيني؟
